دائماً ما يقال "في الليلة الظلماء يفتقد البدر" ولإن كتاب "الأهلي في زمن جوزيه" يقدم ايام جميلة مرت على عشاق القلعة الحمراء وستظل دائماً ذكرى رائعة في أذهان الجميع يقدم لكم
خلال الفترة المقبله فصول من كتاب الدكتور "علاء صادق" الذي خلد فيه تلك الحقبة من الزمن والتي شهدت ازهى عصور القلعة الحمراء والتي نتمنى ان تستمر وتتوالى الانتصارات ليظل دائماً الاهلي حاصد البطولات رقم واحد في القارة السمراء.. وسوف تكون الحلقات بمثابة شهادة من اشخاص تعاملوا مع الساحر البرتغالي مانويل جوزيه عن قرب تحت عنوان "جوزيه الذي نعرفه" ونتوجه بالشكر الى الدكتور علاء صادق الذي منحنا موافقته الكريمه على نشر بعض فصول من كتابه الذي سيظل مرجعاً تاريخياً لفترة من أزهى عصور القلعة الحمراء.
وحلقة اليوم يقصها معشوق الملايين وأمير القلوب محمد أبوتريكة
مكانك تحت الدش
محمد ابو تريكة لاعب الفريق الحالى
قصتى مع مانويل جوزيه طويلة ومثيرة وحافلة بكل انواع المواقف السارة والمحزنة .. ولكنها كانت دائما مغلفة بالاحترام المتبادل والصدق التام والرغبة الجارفة فى خدمة الاهلى . والموقف الفاصل الذى وطد العلاقة بيننا كان باكرا جدا .
لم يحالفنى التوفيق فى الاداء فى الايام الاولى مع الاهلى عام 2004 بعد انتقالى من نادى الترسانة وتصادفت تلك الفترة مع حضور جوزيه مدربا للفريق .. وتعرضت لبعض النقد من رجال الاعلام أو من جماهير الفريق التى تابعت مباراتين وديتين للاهلى فى دورة نظمتها شركة ال.جى. ولم اظهر خلالهما بالمستوى الجيد .. وطلبنى جوزيه للحوار على انفراد وتحدث معى فى حضور مترجمه احمد عبده فقط مؤكدا فى البداية انه صاحب قرار اختيارى للانضمام الى الاهلى .. ولم يكن الاختيار على سبيل المجاملة ولكن لاقتناعه بامكانياتى الفنية وسماتى الشخصية .. واللعب للاهلى وارتداء الفانلة الحمراء امران مختلفان تماما عن اللعب لاى ناد اخر فى مصر .. واشار الى اننى لم انسجم مع زملائى فى الايام القليلة التى اعقبت حضورى ودعانى لبدء مرحلة من الاجتهاد الزائد والمران العنيف لاثبات وجودى واحتلال مكان اساسى فى الفريق .. واضاف انه متأكد اننى سأكون حجر الزاوية فى تغيير بوصلة الفريق وسببا فى تحول كبير وجذرى فى خريطة البطولات فى مصر وافريقيا اذا قدمت المستوى الذى يتمناه . واعطتنى تلك الجلسة القصيرة دفعة معنوية هائلة وثقة عملاقة للانطلاق دون حذر وقدمت مباراة جيدة ضد طنطا فى اللقاء التالى وأحرزت هدفا .
ووقف بجوارى بقوة بعد شهور قليلة من وصوله عندما غاب عنى التوفيق ايضا فى مباراة منتخب مصر ضد ليبيا عام 2004 واهدرت خلالها فرصة سهلة .. وانهالت سهام النقد ضدى من كل حدب وصوب .. ولم اجد شخصا بجوارى سواه وتعددت جلساته معى لاخراجى من حالة الحزن وتأنيب الضمير بل وتعذيب النفس .. وأكد ان أكبر وأشهر وأمهر نجوم الكرة فى العالم أهدروا أسهل الفرص ولكنهم ظلوا نجوما لأنهم أحرزوا بعدها أصعب وأهم الأهداف .. وان الاصرار والتركيز فى المران والمباريات هما الطريق الوحيد للعودة الى النجاح والتوفيق .
وامتلك جوزيه قدرات اسطورية فى التعامل النفسى مع اللاعبين وخصوصا فى الأزمات أو قبل المباريات الكبيرة .. وكان حريصا على إعطاء وقت أطول لجلساته الخاصة مع بعض اللاعبين فى الأيام السابقة لدربى القاهرة مع الزمالك .. وتمر الايام وتقترب المباراة دون ان يجلس معى وتحاصرنى الاسئلة حول تأخير استدعائه لى أو احتمالات غيابى عن المباراة .. ولكنه يتركنى محتارا حتى موعد اللقاء واجد نفسى اساسيا ووفقت كثيرا فى احراز الانتصارات والاهداف فى مباريات الزمالك .. ولكنه لم يستدعنى مطلقا لاى جلسه خاصة قبل لقاء القمة مما دعانى يوما لسؤاله مستفسرا وجاءت الاجابة سريعة وعفوية وتعكس فهمه الكامل لشخصيتى ورغباتى .. واكد اننى احب تلك المباراة بشكل خاص ولا تحتاج الى اى تحفيز أو شحن اضافى قد يأتى بنتائج عكسية .. واذكر انه توقع ذات يوم اننى سأسجل ثلاثة اهداف فى احدى المباريات .. وقال لى امام كل اللاعبين فى المحاضرة التى سبقت اللقاء ( ابوتريكة .. انتظر منك اليوم هاتريك ) .. وفزنا 4-2 واحرزت الهدفين الاول و الثانى للاهلى واهدرت فرصة سهلة لتحقيق رؤيته .. وفى فترة الاعداد لموسمه الاخير مع الفريق كنت مصابا وبعيدا عن المباريات وتصادف ان الاسابيع الاولى من الموسم شهدت مباراتين متتاليتين ضد الزمالك .. وكان يتمنى اشراكى لعلمه بتوفيقى فى لقاءات القمة ولكنه طالبنى بالهدوء والسيطرة على مشاعرى والانتظام فى التأهيل دون عجلة حتى يكتمل الشفاء .
ومن زوايا قراءته لأفكار لاعيبه ما حدث عقب مباراة الصفاقسى التونسى فى القاهرة فى نهائى دورى الأبطال عام 2006 .. وانتهى اللقاء الاول بالتعادل 1-1 وأصابنا الحزن فمنحنا أجازة فى اليوم التالى للمباراة .. وعند عودتنا الى النادى حرص على استدعائى قبل المران وأخبرنى اننى لم أنم جيدا فى الليلتين السابقتين .. واخبرته اننى لم أنم على الاطلاق بسبب الكوابيس التى هاجمتنى لضياع الفوز والكأس من ايدينا .. واذا به يسالنى عدم التدريب والعودة الى منزلى للحصول على الراحة الكافية ولكنه همس فى أذنى أنه متأكد من فوزنا فى لقاء الاياب فى تونس .. وفى التدريبات التالية قرر أن يخفف من الحمل التدريبى معى وأخبرنا فى المحاضرة السابقة للمباراة بالسيناريو الذى وضعه للقاء واننا سنفوز فى الدقائق الاخيرة .. وكم كان الأمر مدهشا عندما سارت المباراةمن بدايتها على الوتيرة التى حكاها لنا .. ولم نكن منزعجين من مرور الوقت و التعادل السلبى القائم كاف لفوز الصفاقسى بالكأس .. ورغم ان ساعة الملعب اشارت لنهاية الوقت الاصلى للمباراة وان جماهير الصفاقسى بدأت فى اشعال النيران والالعاب النارية احتفالا بالنصر والكأس الا اننا ظللنا محتفظين بهدوئنا وثقتنا فى الهدف القادم .. وبالفعل جاء الهدف الموعود الذى أعتبره أغلى وأحلى أهدافى واحتضننى بقوة عقب المباراة قائلا انه لن ينسى ابدا ذلك الهدف .
ولكن الامور ليست وردية على طول الخط مع جوزيه وعندما يفقد اعصابه يتحول الى شخص آخر بالغ العنف .. ومباراة القمة بين الاهلى والزمالك فى نهائى كاس مصر عام 2006 والتى انتهت بفوز الاهلى 3- صفر شهدت اهدارى لركلة جزاء فى الدقيقة الاخيرة من الشوط الاول ونحن متقدمون 2- صفر .. وبادرنى بغضب غير مسبوق عند دخولنا الى غرفة الملابس واتهمنى بالتسرع والاستهتار وعدم الالتزام بالتعليمات .. وان احراز الهدف الثالث قبل الشوط الثانى كان كفيلا بقتل المباراة وضمان الفوز بالكأس .. وظل يردد طوال فترة الراحة انتم لا تتعلمون وتلعبون لحسابكم وتسيرون وفقا لافكاركم .. وحرصت على تفاديه حتى نزلنا الى الملعب .
واذكر ان مباراتنا الافتتاحية فى الدورى العام فى احد المواسم كانت ضد الكروم فى القاهرة .. ولم نكن قد وصلنا الى اعلى مستوى بدنى أو فنى ولم نفعل شيئا فى الشوط الاول .. ودخلنا الى غرفة الملابس بين الشوطين ونحن نتوقع هجوما كاسحا من جوزيه ولكنه ترك الجميع وتحدث معى فقط بصوت عال امام الجميع قائلا ( ابو تريكة .. انت اسوأ من اسوأ لاعب فى فريق الكروم الصاعد .. اذهب الى الاستحمام .. مكانك الان تحت الدش ) .. واستبدلنى بين الشوطين .
ولم اره حزينا مقهورا مهزوما منكسرا كما رأيته بعد خسارتنا غير العادلة على يدى الحكم المغربى العرجون فى نهائى كأس دورى الابطال فى ملعب القاهرة الدولى امام مائة الف من انصارنا على يدى النجم الساحلى التونسى .. وفور نهاية المباراة اقترب منى وربت على كتفى مواسيا وسألنى عن ركلة الجزاء التى لم يحتسبها العرجون لصالحى عندما تعرضت للعرقلة داخل منطقة الجزاء .. وطالبنى بالصدق فى الرد حول السقوط التمثيلى أو لفقدان التوازن أو تعرضى للعنف وعندما أبلغته انها عرقلة عنيفة ومؤكدة وركلة جزاء صحيحة احتضننى قائلا ( كنت بصدد ان اغضب منك لو لم تكن صحيحة ) .. وعند صعدنا الى المنصة لاستلام الميداليات الفضية تعرض لالقاء عدد من الاشياء عليه .. وغضب جدا وفكر فى الرحيل ولكنه عرف سريعا ان الجماهير كانت تقصد القاء الاشياء على الحكم الظالم والذى تسرب بين لاعبى الاهلى لحمايته عند صعوده لاستلام ميداليته .
والجوانب الايجابية فى علاقتى مع جوزيه تغطى تماما على اى سلبيات او عقوبات .. وكان عشقه للاهلى ومصر بلا حدود .. واذكر فى يناير 2006 وكان الدورى متوقفا لانشغال منتخب مصر فى نهائيات كأس الام الافريقية التى نظمتها مصر .. لم نكن موفقين فى مباراتنا مع المغرب وانتهت بالتعادل السلبى رغم تفوقنا التام فى السيطرة على اللقاء .. وفوجئت به يتصل بى حزينا لضياع الفوز من مصر .. وابلغنى بعدد من ملاحظاته على ادائى والاخطاء التى ارتكبتها .. واشار الى التعديلات التى يجب ان اتبعها فى المباريات المقبلة لاستعادة مستواى .. واحتفل معنا بفوز منتخبنا عند عودة اللاعبين الدوليين الى تدريبات الفريق .
وتخطى جوزيه معنا مرحلة المدرب والقائد والاستاذ المعلم الى مرحلة الاب الحقيقى الحريص على مصالحنا .. وعقب هزيمتنا المؤلمة فى كأس اندية العالم 2008 امام باتشوكا المكسيكى تلقيت عرضا مغريا للاحتراف من نادى الهلال السعودى .. وكان اول من استشرته فى قبول العرض أو رفضه وصارحته بكل جوانب العرض مع ظروفى الشخصية .. وفوجئت به محتارا على عكس طبيعته الحاسمة ورفض الادلاء برأى قاطع فى الامر .. وطالبنى باتخاذ القرار منفردا دون اى ضغط أو تأثر من اى شخص اخر .. وأن أحتكم الى صوت العقل بعيدا عن العواطف .. واخبرنى انه ليس الرجل الذى يقول لاحسن لاعبى فريقه ارحل الى ناد اخر .. ومنحنى يومين كاملين للتفكير وابلاغه أو ابلاغ لجنة الكرة بالقرار .
وبعد يومين ذهبت اليه لابلغه اننى استخرت الله وقررت أن أبقى مع الاهلى وأن الوقت غير مناسب للرحيل لأن الأهلى يحتاجنى اكثر .. وفرح كثيرا بالقرار والموقف وتولى مسئولية ابلاغ لجنة الكرة .
ووقف بجانبى بقوة خلال الفترة التى انحصرت فيها الترشيحات بين النجم التوجولى ايمانويل اديبايور وبينى للفوز بجائزة الاتحاد الافريقى لأحسن لاعب فى القارة لعام 2008 .. وكان يردد باستمرار ان فرصة المحترفين فى اوربا اكبر ولكن الجدارة الحقيقية تميل لمصلحتى .. وطالبنى بالحرص على امتاع الناس بالانجازات الجماعية سواء مع الاهلى أو مع المنتخب لأنها تبقى .. وشدد على اهمية طرد التفكير فى فوزى أو فى الجائزة أو الانانية فى التركيز على نفسى والاهتمام الدائم بالفريق والمجموعة .
وبعدها تعرضت لسلسلة من الاصابات وابتعدت على التدريبات والمباريات لفترة طويلة وهبط مستواى بالطبع .. ولكنه اشركنى فى المباريات ولم يحاسبنى على نقص اللياقة أو الجهد أو الاهداف وكان يقول دائما ( اشركك مضطرا لاننى احتاجك .. ولكن لا تحمل نفسك أكثر من طاقتك ) .
وجوزيه الانسان الطيب الودود الحنون الكريم اكبر الف مرة من جوزيه المدرب الاسطورى .. ومواقفه الخيرية كثيرة ورائعة بل ومفاجئه لنا خاصة وانها مع اشخاص لا يعرفهم .
وفى شهوره الاخيرة فى القاهرة اختارته جهة عالمية لتكريمه باعتباره سفيرا للاعمال الخيرية والنوايا الحسنة .. وحضر حفل التكريم عدد وفير من اشهر رجال الرياضة والسياسة والمال من دول عدة فى مقر وزارة الرياضة .. واصحبنا محمد بركات وأنا معه الى الحفل .. وخلال وقوفنا فى اشارة المرور لاحظ وجود سيدة فقيرة فى ركن الشارع وحولها وحولها عدد من الاطفال الصغار الذين يرتدون ملابس بالية .. واذا به يفتح باب السيارة ويتجه اليها ويمنحها مبلغا كبيرا جدا من المال ولعله الاكبر فى تاريخها .. وانهالت عليه الدعوات الصادقة من تلك المرأة .. وتعرضنا للعنات الكثيرين من ركاب السيارات الواقفة والمحجوزة خلفنا فى اشارة المرور حتى عاد جوزيه من رحلته الخيرية القصيرة .. ونظرت الى بركات قائلا (عرفت ليه يا بركات .. ربنا بيكسب هذا الرجل ) .